فصل: الباب الثاني من المقدمة في ذكر مدلول الكتابة لغة واصطلاحا وبيان معنى الإنشاء وإضافة الكتابة إليه ومرادفة لفظ التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل وتفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة وترجيح النثر على الشعر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل الثاني في مدح فضلاء الكُتَّاب وذمِّ حَمْقاهم:

أما فضلاء الكُتَّاب فلم يزل الشعراء يَلْهَجون بمدح أشراف الكُتَّاب وتقريظهم ويتغالَوْن في وصف بلاغات هم وحُسْن خطوطهم؟ فمن أحسن ما مَدح به كاتب قولُ ابن المعتز:
إذا أخذ القِرْطاس خِلْتَ يمينَة ** تُفَتَح نَوْراً أو تُنَظِّم جَوْهرا

وقول الآخر:
يُؤلِّفُ اللّولُؤَ المَنْثُورَ مَنْطِقه ** ويَنْظِئم الذُرّ بالأقلام في الكاتب

وقول الآخر:
وكاتب يرقُم في طِرسِه ** روضا به ترتع الحفاظ

فالدُّر ما تَنْظِم أقلامُه ** والسحر ما تنثر ألفاظه

وقول الآخر:
إن هز أقلامَة يَوْماً ليعمِلها ** وإنساك كل كمى هز عامله

وأن اقرَ على رَق أناملَة ** أقر بالرق كتاب النان له

قول الآخر:
لا يخطر الفكر في كتابَتِه ** كان اقلامه لها خاطر

القَول والفِعْل يجريَانِ مَعاً ** لا أول فيهما ولا آخر

وقول آخر:
وشادنٍ من بني الكُتَابِ مقتَدِر ** على البلاغة احلى الناس أنشاء

فلا يُجاريهِ في ميْدانه أحَد ** يريك سبحانه فى الإنشاء إن شاء

وكذلك أولِغوا بذَمِّ حَمقى الكُتَّاب ولَهِجُوا بهَجْوهم في كل زمن.
فمن ذلك قول بعض المتقدمين يهجُو كاتباً:
حِمار في الكِتابةِ يَدًعِيها ** كدَعْوى الِ حَرْبِ في زيَاد

فدَعْ عنْكَ الكِتابَةَ لَسْت منها! ** ولو غَرِقتْ ثِيابُكَ في المِدَاد

وقول الآخر.
وكاتب كُتبه تُذكرني القرءان ** حتى أظل في عَجَب

فاللَفْظ قالوا قُلُوبنا غلف ** والخَطُ تَبَّت يَدَا آبي لهب

وقول الآخر:
يعي غير ما قُلْنا ويَكْتُب غير ما ** يَعِيه ويقراء غير ما هو مكتوب

وقول الآخر:
ومكاتب أقلامه ** معَؤَدات بالغَلطْ

يَكشِط ما يكتبه ** ثم يعِيد ما كشَط

وقول آبن أي العَيْناء يهجوأسد بن جَهْو الكاتب.
أوما تَرى أسد بنَ جَهْوَر قد غَدَا ** مُتَشبها بأجلَةِ الكتَّاب؟

لكِنْ يخَرِّقُ ألفَ طُومارٍ إذا ** ما آحتيجَ منه إلى جوابِ كِتاب

وقد أكثر الناس من الحكايات المضحكة عن هذا النوع من الكُتَّاب مما صاروا به هزؤاً على ممرّ الزمان وتعاقب الأيام. كما حكي عن محمد بن يحيى الكاتب انه قرأ على بعض الخُلفاء كتاباً يذكر فيه حاضر طيّ فصحفه حاضرطي فسخِر منه أهل المجلس.
ويروى ان كتّاب الدواوين ألزموا بعض العمال مالاً مخرَّجا عليه فبعث بحسابه إلى عبيد اللّه بن سليمان فوقَّع عليه هذا هذا، ورد الحساب إلى العامل فقدّر العاملُ بضعْف آدابه انه صحَّح حجته وقَبِل الحساب منه كما يقال في تثبت الشيء هو هو، وأخرج التوقيع إلى الكُتَاب وناظرهم على ان ذلك يجب إزألة المال الذى لزمه عنه فلم يفهم أحد منهم ما أراد عبيد الله بن سليمان فرد التوقيع الى عبيد الله فلم يزده في الجواب على أن شدّد الكلمة الأخيرة ووقع تحتها الله المستعان؛ إعلاماً له أن لفظ هذا بالتشديد بمعنى الهذيان.
وحكى العبّاس بن أسد. أن آبا الحسن عليَّ بن عيسى كتب إلى أبي الطيب أحمد بن عيسى كتاباً من مكه فقراه ثم رمى به إليّ فقال: اقرا! فقرات: كتابي إليك يوم القر؟، فقلت القر البرد. فقال. أنما هو يوم القر بالفتح، حين يقر الناس بمنى، وهو اليوم الثانى من النحر. ومثل ذلك كثير.
قال صاحب نهاية الأرب وقد اتسع الخرق في ذلك ودخل في الكتابة من لا يعرفها البتة، وزادوا عن الإحصاء، حتى إن فيهم من لا يفرق بين الضاد والطاء. قال: ولقد بلغني عن بعض من أدخل نفسه في الكتابة وتوسل إلى أن كتب في ديوان الرسائل: أنه رسم له بكتاب يكتبه في حق رجل اسمه طرنطاي فقال لكاتب إلى جانبه: طرنطاي يكتب بالساقط أو بالقائم؟ قال: وصار الآن حد الكاتب عند هؤلاء الجهال أنه يكتب على المجود مدة ويتقن بزعمه اسطراً، فإذا رأى من نفسه أن خطه قد جاد أدنى جودة أصلح بزته، وركب برذونه أو بغلته، وسعى في الدخول إلى ديوان الإنشاء والانضمام إلى أهله. ولعل الكتابة إنما يحصل ذمها بسبب هؤلاء وأمثالهم. ولله در القائل!:
عس الزمان! فقد أتى بعجاب ** ومحا فنون الفضل والآداب

وأتى بكتاب لو انبسطت يدي ** فيهم رددتهم إلى الكتاب

قلت: وإنما تقاصرت الهمم عن التوغل في صناعة الكتابة والأخذ منها بالحظ الأوفى لاستيلاء الأعجم على الأمر، وتوسيد الأمر لمن لا يفرق بين البليغ والأنوك لعدم إلمامه بالعربية والمعرفة بمقاصدها، حتى صار الفصيح لديهم أعجم، والبليغ في مخاطبتهم أبكم، ولم يسع الآخذ من هذه الصناعة بحظ إلا أن ينشد:
وصناعتي عربية وكأنني ** ألقى بأكثر ما أقول الروما

فلمن أقول؟ وما أقول؟ وأين لي؟ ** فأسير لا بل أين لي فأقيما؟

وقد حكى أبو جعفر النحاس عن بعضهم أنه قال: حضرت مجلس رجل فأحجمت عن مسألة حاجتني لكثرة جمعه، فرأيته وقد أملى على كاتبه، ولم أكتب بخطي إليك خوفاً من أن تقف على رداوت فكتب كتابه: رداوته على ما يجب فقال: أما تحسن الهجاء؟ أين الواو؟ فأثبتها الكاتب فحس حينئذ في عيني، فاجترأت عليه فدنوت منه وسألته حاجتي.
وحكى صاحب ذخيرة الكتاب عن بعض الوزراء: أنه تقدم إلى كاتبه بأن يكتب ألقاب أمير ليثبتها على برج أنشأه فكتب: أمر بعمارة هذا البرج أبو فلان فلان. واستوفى ألقابه إلى آخرها، ودفع المثال إلى الوزير ليقف عليه فلما قرأه غضب حتى ظهر الغضب في وجهه، وأنكر على الكاتب كونه كتب أبو فلان بالواو ولم يكتب أبي فلان بالياء محتجاً عليه بأن أبو من ألفاظ العامة فلا تعظيم بها. فقال الكاتب: إن الحال اقتضت رفعه من حيث إنه في هذا الموضع فاعل فزاد إنكاره عليه وقال: متى رأيت الأمير فاعلاً في هذا الموضع يحمل وينقل الحجارة على رأسه حتى تنسبه إلى هذا؟ والله لولا سالف خدمتك لفعلت بك!.
قال ابن حاجب النعمان: ولما كان أرباب الأمور وولاتها من الخلفاء فمن دونهم ينقدون ما يكتب به الكتاب عنهم وما يرد عليهم من الكتب، ويتناقشون على ما يقع فيها من خطأ أو يدخلها من خلل، ويقدمون الفاضل ويرفعون درجته، ويؤخرون الجاهل ويحطون رتبته، كان الكتاب حينئذ يتبارون على اقتناء الفضيلة، ويترفعون عن أن يعلق بهم من الجهل أدنى رذيلة، ويجهدون في معرفة ما يحسن ألفاظهم، ويزين مكاتباتهم، لينالوا بذلك أرفع رتبة، ويفوزوا بأعظم منزلة.
ولما انعكست القضية في تقديم من غلط بهم الزمان، وغفل عنهم الحدثان، واستولت عليهم شرة الجهل، ونفرت منهم أوانس الرياسة والفضل وصار العالم لديهم حشفاً، والأديب محارفاً، والمعرفة منكرة، والفضيلة منقصة، والصمت لكنه، والفصاحة هجنة، اجتنبت الآداب اجتناب المحارم، وهجرت العلوم هجر كبائر المآثم.
ولو أنصف أحد هؤلاء الجهال، لكان بالحشف أولى، وبالحرفة والمنقصة أجدر وأحرى، لكنه جهل الواجبات وأضاعها، وسفه حق المروءة وأفسد أوضاعها ويوصف بالحي الناطق، والصامت أرجى منه عند أهل النظر وذوي الحقائق.

.الباب الثاني من المقدمة في ذكر مدلول الكتابة لغة واصطلاحا وبيان معنى الإنشاء وإضافة الكتابة إليه ومرادفة لفظ التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل وتفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة وترجيح النثر على الشعر:

وفيه ثلاثة فصول:

.الفصل الأول في ذكر مدلولها وبيان معنى الإنشاء وإضافتها إليه ومرادفه التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل:

الكتابة في اللغة مصدر كتب يقال: كتب يكتب كتباً وكتاباً وكتابة ومكتبة وكتبة فهو كاتب ومعناها الجمع، يقال تكتبت القوم إذا اجتمعوا، ومنه قيل لجماعة الخيل كتيبة، وكتبتن البغلة إذا جمعت بين شفريها بحلقة أو سير ونحوه، ومن ثم سمي الخط كتابة لجمع الحروف بعضها إلى بعض كما سمي خرز القربة كتابة لضم بعض الخرز إلى بعض. قال ابن الأعرابي: وقد تطلق الكتابة على العلم ومنه قوله تعالى: {أم عندهم الغيب فهم يكتبون} أي يعلمون. وعلى حد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في كتابه لأهل اليمن حين بعث إليهم معاذاً وغيره: «إني بعثت إليكم كاتباً» قال ابن الأثير في غريب الحديث أراد عالماً. سمي بذلك لأن الغالب على من كان يعلم الكتابة أن عنده علماً ومعرفة، وكان الكاتب عندهم قليلاً وفيهم عزيزاً.
أما في الاصطلاح فقد عرفها صاحب مواد البيان: بأنها صناعة روحانية تظهر بآلة، جثمانية، دالة على المراد بتوسط نظمها. ولم يبين مقاصد الحد ولا ما دخل فيه مللا ما خرج عنه، غير أنه فسر في موضع آخر معنى الروحانية فيها بالألفاظ التي يتخيلها الكاتب في أوهامه ويصور من ضم بعضها إلى بعض صورة باطنة قائمة في نفسه. والجثمانية بالخط الذي يخطه القلم وتقيد به تلك الصورة وتصير بعد أن كانت صورة معقولة باطنة صورة محسوسة ظاهرة. وفسر الآلة بالقلم، وبذلك يظهر معنى الحد وما يدخل فيه ويخرج عنه؛ ولا شك أن هذا التحديد يشمل جميع ما يسطره القلم مما يتصوره الذهن ويتخيله الوهم فيدخل تحته مطلق الكتابة كما هو المستفاد من المعنى اللغوي. على أن الكتابة وإن كثرت أقسامها وتعددت أنواعها، لا تخرج عن أصلين هما: كتابة الإنشاء، وكتابة الأموال وما في معناهما على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
إلا أن العرف فيما تقدم من الزمان قد خص لفظ الكتابة بصناعة الإنشاء حتى كانت الكتابة إذا أطلقت لا يراد بها غير كتابة الإنشاء، والكاتب إذا أطلق لا يراد به غير كاتبها حتى سمى العسكري كتابه الصناعتين، الشعر والكتابة، يريد كتابة الإنشاء، وسمى ابن الأثير كتابه المثل السائر، في أدب الكاتب والشاعر. يريد كاتب الإنشاء، إذ هما موضوعان لما يتعلق بصناعة الإنشاء من علم البلاغة وغيرها.
ثم غلب في زماننا بالديار المصرية اسم الكاتب على كاتب المال حتى صار الكاتب إذا أطلق لا يراد به غيره، وصار لصناعة الإنشاء اسمان: خاص يستعمله أهل الديوان ويتلفظون به وهو كتابة الإنشاء، وعام يتلفظ به عامة الناس وهو التوقيع، فأما تسميتها بكتابة الإنشاء فتخصيص لها بالإضافة إلى الإنشاء الذي هو أصل موضوعها، وهو مصر أنشأ لاشيء إذا ابتدأه أو اخترعه على غير مثال يحتذيه، بمعنى أن الكتاب يخترع ما يؤلفه من الكلام ويبتكره من المعاني فيما يكتبه من المكاتبات والولايات وغيرهما، أو أن المكاتبات والولايات ونحوها تنشأ عنه.
وأما تسميتها بالتوقيع فأصله من التوقيع على حواشي القصص وظهورها، كالتوقيع بخط الخليفة أو السلطان أو الوزير أو صاحب ديوان الإنشاء أو كتاب الدست ومن جرى مجراهم بما يعتمد في القضية التي رفعت القصة بسببها، ثم أطلق على كتابه الإنشاء جملة.
قال ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتاب: ومعناه في كلام العرب التأثير القليل الخفيف، يقال: جنب هذه الناقة موقع إذا أثرت فيه حبال الأحمال تأثيراً خفيفاً. وحكي أن أعرابية قالت لجارتها حديثك ترويع وزيارتك توقيع. تريد أن زيارتها خفيفة. قلت: ويحتمل أن يكون من قولهم: وقع الأمر إذا حق ولزم، ومنه قوله تعالى: {ووقع القول عليهم بما ظلموا} أي حق، أو من قولهم: وقع الصيقل السيف إذا أقبل عليه بميقعته يجلوه لأنه بتوقيعه في الرقعة يجلو اللبس بالإرشاد إلى ما يعتمد في الواقعة، أو من موقعة الطائر. وهي المكان الذي يألفه من حيث إن الموقع على الرقعة يألف مكاناً منها يوقع فيه كحاشية القصة ونحوها، أو من الموقعة بالتسكين: وهو المكان المرتفع في الجبل لارتفاع مكان الموقع في الناس وعلو شأنه أو غير ذلك.
ووجه إطلاقه على كتابة الإنشاء أنه قد تقدم أن التوقيع في الأصل اسم لما يكتب على القصص ونحوها، وسيأتي أن ما يكتب من ديوان الإنشاء من المكاتبات والولايات ونحوها إنما يبنى على ما يخرج من الديوان من التوقيع بخط صاحب ديوان الإنشاء أو كتاب الدست ومن في معناهم؛ وحينئذ فيكون التوقيع هو الأصل الذي يبني عليه المنشئ، وقد يكون سمي بأصله الذي نشأ عنه مجازاً، وقد يعبر عنها بصناعة الترسل تسمية للشيء بأعم أجزائه، إذ الترسل والمكاتبات أعظم كتابة الإنشاء وأعمها من حيث إنه لا يستغني عنها ملك ولا سوقة، بخلاف الولايات، فإنها مختصة بأرباب المناصب العلية دون غيرهم؛ وعلى ذلك بنى الشيخ شهاب الدين محمود الحبي رحمه الله تسمية كتابه حسن التوسل إلى صناعة الترسل.

.الفصل الثاني في تفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة:

قد تقدم في الفصل الذي قبله أن الكتابة وإن كثرت أقسامها وتعددت أنواعها لا تخرج عن أصلين: كتابة الإنشاء، وكتابة الأموال.
فأما كتابة الإنشاء فالمراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تأليف الكلام وترتيب المعاني: من المكاتبات والولايات والمسامحات والإطلاقات ومناشير الإقطاعات والهدن والأمانات والأيمان وما في معنى ذلك ككتابة الحكم ونحوها.
وأما كتابة الأموال فالمراد بها كل ما رجع من صناعة الكتابة إلى تحصيل المال وصرفه وما يجري مجرى ذلك ككتابة بيت المال والخزائن السلطانية، وما يجبى إليها من أموال الخراج وما في معناه، وصرف ما يصرف منها من الجاري والنفقات وغير ذلك، وما في معنى ذلك ككتابة الجيوش ونحوها مما ينجر القول فيه إلى صنعة الحساب؛ ولا شك أن لكل من النوعين قدراً عظيماً وخطراً جسيماً، إلا أن أهل التحقيق من علماء الأدب ما برحوا يرجحون كتابة الإنشاء ويفضلونها ويميزونها على سائر الكتابات ويقدمونها؛ ويحتجون لذلك بأمور: منها أن كتابة الإنشاء مستلزمة للعلم بكل نوع من الكتابة، ضرورة أن كاتب الإنشاء يحتاج فيما يكتبه من ولاياته ومكاتباته مما يتعلق بكتابة الأموال إلى أن يمثل لهم في وصاياه من صناعتهم ما يعتمدونه؛ ويبين لهم ما يأتونه ويذرونه؛ فلا بد أن يكون عالماً بصناعة من يكتب له بخلاف كاتب الأموال، فإنه إنما يعتمد على رسوم مقررة وأنموذجات محررة لا يكاد يخرج منها، ولا يحتاج فيها إلى تغيير ولا زيادة ولا نقص.
ومنها اشتمال كتابة الإنشاء على البيان الدال على لطائف المعاني التي هي زبد الأفكار وجواهر الألفاظ، التي هي حلية الألسنة، وفيها يتنافس أصحاب المناصب الخطيرة والمنازل الجليلة، أكثر من تنافسهم في الدر والجوهر.
ومنها ما تستلزم كتابة الإنشاء من زيادة العلم، وغزارة الفضيلة، وذكاء القريحة، وجودة الروية: لما يحتاج إليه من التصرف في المعاني المتداولة والعبارة عنها بألفاظ غير الألفاظ التي عبر بها من سبق إلى استعمالها مع حفظ صورتها وتأديتها إلى حقائقها؛ وفي ذلك من المشقة ما لا خفاء فيه على من مارس الصناعة، خصوصاً إذا طلب الزيادة والعلو على من تقدمه في استعمالها، أو حذا حذو رسوم المبرزين الذين ينتحلون الكلام ويوقعونه مواقعة، مع مراعاة رشاقة اللفظ، وحلاوة المعنى، وبلاغته ومناسبته مع ما يحتاجه من اختراع المعاني الأبكار للأمور الحادثة التي لم يقع مثلها، ولا سبق سابق إلى كتابتها، لأن الحوادث والوقائع لا تتناهى ولا تقف عند حد.
ومن هنا تنقص الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر المقامات الحريرية وأزدراها جانحاً إلى أنه صور موضوعة في قوالب حكايات مبنية على مبدإ ومقطع، بخلاف الكتابة فإن أهوالها غير متناهية؛ ولو روعي حال ما يكتبه الكاتب في أدنى مدة لكان مثل المقامات مرات.
ومنها اختصاص كاتب الإنشاء بالسلطان وقربه منه وإعظام خواصه واعتمادهم في المهمات عليه، مع كونه أحرز بالسلامة من أرباب الأقلام المتصرفين في الأموال. وقد قال بعض الحكماء: الكتاب كالجوارح كل جارحة منها ترفد الأخرى في عملها بما به يكون فعلها، وكاتب الإنشاء بمنزلة الروح الممازجة للبدن المدبرة لجميع جوارحه وحواسه.
قال في مواد البيان: ولا شك في صحة هذا التمثيل، لأن كاتب الإنشاء هو الذي يمثل لكل عامل في تقليده ما يعتمد عليه ويتصفح ما يرد منه ويصرفه بالأمر والنهى على ما يؤدي إلى استقامة ما عقد به، وهو حليلة المملكة وزينتها لما يصدر عنه من البيان الذي يرفع قدرها، ويعلى ذكرها، ويعظم خطرها، ويدل على فضل ملكها، وهو المتصرف عن السلطان في الوعيد، والترغيب، والإحماد والإذمام، واقتضاب المعاني التي تقر الوالي على ولايته وطاعته، وتعطف العدو العاصي عن عداوته ومعصيته. على أن بعض المتعصبين قد رجح كتابة الأموال على كتابة الإنشاء بمغالطات أوردها، وتزويرات زخرفها ونمقها، لا تخفى على متأمل، ولا تتغطى على ذي ذهن سليم.
وقد أورد الحريري في المقامة الثانية والعشرين المعرفة بالفراتية ألفاظاً قلائل في المفاخرة بين كتابتي الإنشاء والأموال، فقال على لسان أبي زيد السروجي:
اعلموا أن صناعة الإنشاء أرفع، وصناعة الحساب أنفع، وقلم المكاتبة خاطب، وقلم المحاسبة حاطب، وأساطير البلاغة تنسخ لتدرس، ودساتير الحسبانات تنسخ وتدرس، والمنشئ جهينة الأخبار، وحقيبة الأسرار، ونجي العظماء، وكبير الندماء، وقلمه لسان الدولة، وفارس الجولة: ولقمان الحكمة، وترجمان الهمة، وهو البشير والنذير، والشفيع والسفير؛ به تستخلص الصياصي، وتملك النواصي، ويقتاد العاصي، ويستدنى القاصي؛ وصاحبه برئ من التبعات، آمن كيد السعات، مقرظ بني الجماعات، غير معرض لنظم الجماعات.
ثم عقب كلامه بأن قال: إلا أن صناعة الحساب موضوعة على التحقيق، وصناعة الإنشاء مبنية على التلفيق، وقلم الحاسب ضابط، وقمل المنشئ خابط؛ وبين إتاوة توظيف المعاملات، وتلاوة طوأمير السجلات، بون لا يدركه قياس، ولا يعتوره التباس؛ إذ الإتاوة تملأ الأكياس، والتلاوة تفرغ الرأس، وخراج الأوارج يغني الناظر، واستخراج المدارج يعني الخاطر.
ثم إن الحسبة حفظة الأموال، وحملة الأثقال، والنقلة الأثبات، والسفرة الثقات، وأعلام الإنصاف والانتصاف، والشهود المقانع في الاختلاف، ومنهم المستوفي الذي هو يد السلطان، وقطب الديوان، وقسطاس الأعمال، والمهيمن على العمال، وإليه المآل في السلم والهرج، وعليه المدار في الدخل والخرج، وبه مناط الضر والنفع، وفي يده رباط الإعطاء والمنع، ولولا قلم الحساب، لاودت ثمرة الاكتساب، ولاتصل التغابن إلى يوم الحساب، ولكان نظام المعاملات محولاً، وجرح الظلامات مطولاً، وجيد التناصف مغولاً، وسيف التظالم مسلولاً، وجرح الظلامات مطلولاً، وجيد التناصف مغولاً، وسيف التظالم مسلولاً. على أن يراع الإنشاء متقول، ويراع الحساب متأول، والحاسب مناقش، والمنشئ أبو براقش، ولكليهما حمة حين يرقى، إلى أن يلقى ويرقى، وإعنات فيما ينشا، حتى يغشى ويرشى {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم}.
قلت: وقد أوردت في المقامة التي أنشأتها في كتابة الإنشاء المشار إليها بالذكر في خطبة هذا الكتاب من فضل الكتابة ما يشدو بذكره المترنم، وأودعتها من شرف الكتاب ما يذعن له الخصم ويسلم.